كنت على الهاتف أحاول أن أشرح لك كم تبدو أبراج الكويت اليوم أقرب من
المعتاد، قلتها بالفصحى هكذا "أبراج الكويت اليوم تبدو أقرب من المعتاد"
ضحكت من ملاحظاتي الغريبة وطريقة عقلي في اختيار ما يقوله وما يفكر به. هل نختار فعلاً
ما نفكر به، أظن لا، لكننا بكل الأحوال، أحيانًا، أو غالبًا، يمكننا اختيار ما
نقوله.
بدأ اليوم حزينًا ولا يبعث على الأمان، وحين جلست في سيارتي قلت لنفسي بصوت
استيقظ للتو "سورة طه" لأنها تشبه الحضن وحين اشتد الحضن عند الآية
السابعة وأنا أخرج من قطعتنا السكنية للشارع، بكيت. شكرت الله لأنني اخترت ألا أضع
المكياج اليوم.
أنا قوية جدًا وحين سألتني المذيعة في الإذاعة "أنتِ إنسانة
حساسة؟" قلت لها "حساسية مفرطة" وكل هذا صحيح عني. أذكر أن
"حساسية مفرطة" كان أحد السلبيات المذكورة عني في تقييم إداري في أحد
المنتديات على الإنترنت أيام ما كانت المنتديات على الإنترنت هي طريقتنا في قول
الأشياء لآخرين لا نعرفهم. لكن أظن أن المدونات الإلكترونية هي من فتح الباب
الفعلي نحو حرية كل الأشياء، غير أن الكلمة تحررت قبل أن تتحرر الفكرة حتى وإن بدا
هذا غير مرتب ولا منتظم. كنا نقول الكلمات الكبيرة لأننا نقدر، وقبل أن ندرك كل
معانيها الممكنة. كانت نشوة فعلية أن تكتب ما تشاء كيفما شئت بلا رقيب ولا أشخاص
يكيدون لك في منتديات عامة دون أن تفهم الأسباب. أليس مضحكًا أن الإنسان يختار أن
يكون إنسانًا في كل المساحات مهما وهبت له هذه المساحات إمكانية أن يكون أي شيء
آخر، قطة مثلاً، قطعة شوكولا، أو حتى "شباصة". كان اسمي المستعار في
المنتديات "شباصة" ما يعني مشبك شعر صغير أو ربطة شعر باللهجة الكويتية
وربما لهجات أخرى في الخليج لكني لست بصدد قولها كمعلومة تسبب مشاجرات فوضوية لا
معنى لها كما يحدث غالبًا في هذه المحيطات أو الفضاءات أو العوالم. أحب أن أحسب لي
صدقي، لم أغير اسمي ولا مرة حتى حين كان الافصاح عن الأسماء في الإنترنت يسبب
الرعب أو يعتبر عيبًا عند بعض من يبالغون في كل شيء. كان اسمي دائمًا ريم، لكن
العمر كان دائمًا كذبًا، اسحب نقطة الصدق مني، يبدو أنني لا أستحقها في النهاية.
هل تغفر لي، يا من يفترض لك أن تغفر إن كنت تضع نفسك في هذا الدور، لو قلت أني كنت
أكتب في المدونات والمنتديات ومواقع الإنترنت وأنا في الثانية عشر من عمري كلامًا
كبيرًا ما كان أحد سيأخذه على محمل الجد لو أنني كنت صادقة كما أحب وكما ينبغي؟ لأ؟..
براحتك.. خسارتك.
- لما لا تقفين في صفي؟
- أنا في صف الإله دائمًا. في صف من يرى غباءاتنا من الأعلى ويعلم كم كان بالإمكان تجنبها. في صف النظرة الإلهية.
ضحكت طويلاً على تعليقي. كنت تلعب لعبة تكون فيها شيطانًا وفي إحدى مراحلها
يتعين عليك أن تقتل آلهة، أنثى، كي تنتقل إلى مرحلة ما. جوابي على كل حال كان
رجوعًا لحديث سابق بيننا. أليس عجيبًا ما يمكن للكلمات أن تخلقه بين فردين يعيشان
الحياة؟ حلوة فكرة الألفة، المشاركة، الفكرة التي تكون في رأسك وتصير في رأسين
لأنك وضعتها بأفضل ما تستطيع بهيئة كلمات يضحك عليها أغلب الناس وتعلق عليها أنت
"أحب شلون مخج يفكر" مثلك لا أنكر، أحب شلون مخي يفكر، حتى حين يبالغ
كثيرًا دون أن يطلب أحد منه كل هذه المبالغات.
لا أدري إن كان محسن الرملي كتب في "هيام" الشخصية الرئيسية في
روايته "ذئبة الحب والكتب" ما يشتهي الرجل أن تكون عليه المرأة التي
يحبها، أم ما هي عليه بعض النساء فعلاً. هل هذا نحن؟ بعضنا؟ شكل منا لا نعرفه؟ أم
لا يشبهنا ولا يمثلنا كما يليق بنا؟ هل ينظر لنا الرجل هكذا؟ أم أن هذا ما يراه في
حين لا نراه نحن وهو موجود فعلاً؟ وأنا أقرأ هيام في الصفحات الأولى هالني كم
تشبهني، اقتبست منها كثيرًا مقاطع أرسلها للأصدقاء أو أضعها على حساباتي لأقول كم
تشبهني. في الفصول بعد ذلك شعرت بهيام تبتعد عني، لا لأني ألصقت عليها حكمًا
أخلاقيًا جاهزًا، بل عكس ذلك تمامًا، هيام تركتني لأنها عاشت أعمق مني ربما، ليس
بالمجمل، ولكن في مواضع ومواقف ما. أنا أكيدة أني عشت أعمق من هيام في مواضع ومواقف
أخرى، وهذا ما جعلها تبتعد، وجعلني أتأمل، وأتساءل. كيف لي أن أعرف ما تحس به أم؟
أو زوجة مع زوجها؟ أنت تحاول ما استطعت ألا تصدر حكمًا نابعًا من تجربتك على كل من
يمر بتجربة مشابهه، وأنا ماذا؟ أنا من لم يجرب بعد، ولا يدري حقيقة إن كان يريد أن
يجرب بعض هذه الأدوار. فلا حكم هنا، دوامة أفكار وتساؤلات عما يبدو ممكنًا لو
ذهبنا هنا وعما يبدو ممكنًا لو ذهبنا هناك. مجددًا، أليس عجيبًا أن ترى شخصًا يشبهك
يختار أشياء كثيرة ما اخترتها أنت. كأنك تشاهد ما يمكن للحياة أن تكونه، ولو تخليت
عن بعض غرورك لعلك تقدر بعد قليل على أن ترى ذلك في كل البشر والكائنات، كل حيواتهم
هي احتمالات لما يمكن لحياتك أن تكونه وهذا على وسعه وتحريره للآدمي، مخيف ويدعوك
للتواضع.. أنت لا تدري، وهذه نجاتك من غرورك، تذكر.
لم أنهي الرواية بعد. كنت أتأمل من الدور العاشر حركة السير في الأسفل،
السيارات البعيدة جدًا وليست على بعد نظر من يقفون على إشارات المرور منتظرين بضجر
وغضب أن يأتي اللون الأخضر. السيارات القادمة من الطرق الفرعية، دخولها على الطرق
الرئيسية. حنق السائقين، سرعتهم، الفوضى والغباء الممكن تجنبه في نظر من يرى من
أعلى لكنه غير ممكن لمن هم في الأسفل لأن الإنسان ينظر من منظوره الخاص ولا ينظر
من الأعلى. وأنا أشرح لك كل هذا على الهاتف قلت لك:
-
فكرت للتو أن الله ربما ينظر
لنا بهذه الطريقة، يعرف الآتي الذي لا نراه، وكل الحماقات والغباءات الممكن تجنبها
لو أننا نظرنا للصورة الأشمل. أوه، إنني من مكاني أجرب النظرة الإلهية للأشياء.
هو يرحمنا ربما لأننا نبدو مساكين فعلاً من أعلى، ونحن صغار هكذا وغاضبون
ومسرعون ونؤذي بشكل جاد آخرين مثلنا، يتصرفون بنفس الحماقة والثقة. أو ربما لأنه
الله، لأنه كل الأسماء التي كتبها على نفسه. ضحكت أنت.. لأن عقلي فعلاً أعجوبة، هل
علي أن أتواضع وأنكر؟ لن أفعل.. العقل أعجوبة الزمان، كل عقل وليس فقط عقل هذه
الفتاة التي تصدق بسذاجة أنها من الدور العاشر قادرة على أن تحب الإله بطريقة
جديدة وهي تراقب عبور السيارات من أعلى.